كم مضى منذ آخر وقفة وقفتها أمام هذه النافذة؟... صريرها الحاد عند فتحها أشبه بزعيق يثقل العتاب على غيبتي الطويلة عن الدار الصغيرة كالحة الجدران المثخنة مثل جرحٍ متورم بالرطوبة، غبار المكان يحوط الأضواء بهالة خفيفة الصفرة، حرضني على معاودة أدراجي، أركب سيارتي ثم أنطلق بها بعيدا عن هنا، إلا أن مسند السلم الحجري ودرجاته العالية تحدت خمول عضلات ساقي لارتقائها سريعا، كما كنت أفعل في السابق، لأشهد تكور أشعة الشمس في قرص المغيب، يرسم خيوطا مجدولة من الوهج، تؤطر وجهها مغرد الإطلالة دوما، يغشوه سواد عينيها الآسر بتموج لمعانه، يغالب ومض النشرات الضوئية المتراقص في وجهي... تلتف حول أشجار حديقتهم، تتمتد فوق سياج بيتهم المقابل، سيارة العرس المزينة تقف أمام الباب، صوت الموسيقى العالي يضج في الشارع، والضيوف يتوافدون بوجوه متهللة، تخترق ضحكاتهم المكان كأزيز الرصاص...
كنت خارجا من المعتقل لتوي، بصماته منغمسة في جسدي النحيل وروحي المنسابة مع طيفك إلى الفضاء الرحب، علّي أستطيع محق اختناقي عبر خلجاتك المرتعبة هي الأخرى من أجلي، تربتين على رأسي بحنو أمٍ تقهرها خيبات ولدها وهو في مقتبل العمر، تبكيني طويلا ثم تعودين لتقرعي بعنفٍ حماقاتي ورفاقي، نقاشاتنا، جدالاتنا العصبية، اجتماعاتنا، طلبت من والدي مفتاح الدار لتكون مقرا لمذاكرتي وأصحابي في الكلية، فلبى بعد إلحاح وضجر من مماطلة المستأجرين، مستعجلا زهوه بشهادة ابنه البكر الجامعية أمام أقرانه من التجار شبه الأميين... كانت عيناكِ من ضمن تلك العيون المتلصصة على محاصرتنا من قبل السيارات العسكرية ورجال الأمن المدججين بالسلاح؟... رفعت رأسي صوب داركم، أفتش في الظلام عن نور وجهك، أحاول أن أصيخ السمع لتهدج أنفاسك والرشاش مصوب إلى ظهري، ينهرني حامله أن أسارع للركوب إلى جانب شركائي وكأنه يخشى هروبي، وما كان أحوجني للهروب إليك ومعك إلى حيث لا يتنبه لوجودنا أحد...
رغما عنكِ كان زواجك، وبتلك السرعة الهوجاء التي لوَت أعناق أحلامي؟... كما ألفنا أن نشاهد في الأفلام العربية القديمة، أم بكامل إرادتك، تستعجلين الاستقرار والأمان فور تخرجك من الكلية، بعيدا عن جنون السياسة وطغيانها الكاسح، أعترف مجددا أن ذلك ما أبقى كلمات عشقي بكماء أمامك، أعترف بجحيم تحيري ما بين لهفتي لرؤياك والبوح لك بما لم أفكر أن ينطقه لساني لأخرى وبين رضوخي لمخاوفي عليك من مصيري المجهول، إلا أني لم أستطع مسامحتك وكلي يقين بحدس الأنثى داخلك، كنت أراكِ، أسمع صوتك، أرقب حركاتك في كل ركن من هذه الدار، فور دخولي إليها، بعد خروج الرفاق وبقائي وحيدا، يثنيني الكسل والنعاس، ومن قبلهما البقاء أقرب ما يمكن منك، عن الرجوع للمبيت في بيتنا الكبير، على مبعدة ثلاثة فروع لا أكثر... مررت من أمامه سراعا قبل مجيئي إلى هنا، أقصد من أمام مكانه، بيع أكثر من مرة حتى تم هدمه منذ عدة سنوات وبني على أرضه بيت حديث الطراز، ذو واجهة وأعمدة مرمرية ونقوش بارزة بشكل ملفت، تعكس ذوق أحد الأثرياء الجدد، استنزفت الحياة نصيبي منه فلم يتبقَ من الإرث شيء سوى دار الذكريات هذه، لم أسكنها أبدا، أودعت مفتاحها لدى السمسار ـ أحد رفاق الأحلام القديمة ـ ليتولى تأجيرها بمبالغ متناقصة القيمة، سرعان ما تتلاشى من قبضة اليد، مكتفيا بنشوة امتلاكها، وقد حولتها السنون إلى ألبوم صور يحفظ أحلى مراحل حياتي وأقساها...
لا أدري أي شعور، بل كومة مشاعر عبثت بي لدى علمي بنبأ ترملك، أرست بي إلى بعض فوضى حيرتي القديمة، فما أسرع ما كانت تباغتني به من انتفاض شريان العشق الأول ليوالي خموده المستكين بين جنبات السنوات الراكضة دون هوادة، تخَدِش مُداها كل ما فينا وليس وجوهنا وهيئاتنا فحسب...
عرس إبنتك اليوم... ألف مبروك، أقولها بصمت من مكاني البعيد عنك مع نفث دخان سيجارتي الذي تلفه الريح سريعا، وكأني محتجز هنا منذ عقود، أقبع في غيبوبة استولت على عمرينا معا، لا تدعيها تتركك وحيدة في سكنى الكهولة المقبلة على عجل، فلا تعرفين أي الشهقتين تواتيك قبل الأخرى، شهقة الفرح برؤيتها إثر طول فراق أم شهقة الموت، يغالبها ويضنيها شوقك لضمها إلى ما لا نهاية... شوقي إليهما يتنامى منذ الآن بشكلٍ مخيف، وكأنه يشير إلى نوبة قلبية أخرى، الدمع يوخز عيني بجمر الفقدان الجديد، يتحفز لاستلاب ولديّ العاقين مني هذه المرة، يتحدى عجز توسلاتي وأمهما المنتحبة أمام عتو إصرارهما على بيع الدار لقطع تذكرة غربة مختومة بسقم الغياب...